فاقد الشيء لا يعطيه .
"فاقد الشيء لا يعطيه"، أكثر المقولات انتشاراً واعتياداً من كثرة تكرارها على مسامعنا، لكن الحقيقة لا علم لي من قائلها ولماذا قالها لكني أتيقن تمام اليقين أنها جزء من حديث وكان لذلك الحديث بقية...
كما أنني متيقن تماماً إنه لا يعطي ويندى في عطائه حق العطاء إلا من ذاق مرارة الفقد وتجشم ما فيها، ولا يحاول شخص أن ينير الدرب لغيره ولو بظل شمعة إلا لأنه قد ذاق الحرمان من قبل، ورأى كم كانت وحشة طريق الظلام، وتجرع فيه من البؤس والشقاء ما يكفيه لسنين، ولأنّه لم يتجرد من إنسانيته بعد... وبالطبع كل ما حاد عن ذلك فليس من العطاء بشيء.
والآن قد يتبادر إلى أذهان البعض... هل يُعطي من لا يملك؟ أو كيف لمن لا يملك أن يُعطي؟ فلو سلمنا بصحة هذه المقولة مُجازاً ومن باب أن فاقد الخلق الحسن من الإستحالة أن تستقي منه هذا الخلق، وأن فاقد العلم المُتصف بالجهالة يستحيل أن يمنحك ما يُنمي علمك ومعرفتك، وأن الفاقد للمال من غير المالكين له من أين يُعطي إذا أراد ؟ فعلى الجانب الآخر هناك من يُخالف قطعا بصحة هذه المقولة بشكل كبير…فعلى سبيل المثال حينما نشعر بفقد إحساس ما نصبح أكثر معرفة واسعة بالألم الذي يخلقه بداخلنا فقد هذا الإحساس، مما يجعلنا نسارع بمنحه إلى من نشاهده في مثل حالتنا حتى لا يشعر بالألم الذي عشناه.
فكلما تذكرت مقولة “فاقد الشيء لا يعطيه"، تتبادر إلى ذهني قصة ذاك الرجل الذي يدعى "Achille Chatouilleu" وجثمانه إلى الآن موجود في معهد "كاليفورنيا" للفنون، محفوظ تحت الزجاج منذ أكثر 100 عام. فكان يوماً يُعاني من الإكتئاب وكمحاولة لعلاجه قرر الطبيب أن ينصحه بالذهاب إلى مُهرج المدينة ربما ليساعده ويخفف من روعه بعض الشيء، فانفجر الرجل مُجهشاً بالبكاء وقال... "أنا المهرج"!
تلك القصة عن شخص يُضحك غيره من الناس ويرسم البسمة على الوجوه وينشر البهجة والسرور بينما هو في قمة حزنه، ومن هنا يمكننا القول بأن في كثير من الأحيان قد يصنع الحرمان من الرجل رجلا ويجعله إنسانا بحقّ، ويزيل عن عاتقه الكثير من الثقال وعن عقله بعض الشوائب، ويزيل بعض الأقذاء التي لطالما كانت أمام أنظاره وتحول دون معرفته ورؤيته. فلكلّ انسان هناك قصة، ولكل فقدان يُعاني منه شخصٌ، قد يكون العطاء وسيلة له لنسيان مرارة الفقد وتخفيف وطأة الألم.
وبينما لا يعني ذلك أنه ليس هناك ما يشذ عن ذلك، بل يمكنني أن أقول "من وجهة نظري" بأن كثيرا ممن يتذوقون مرارة الحرمان يسعون جاهدين مدفوعين بفعل الغرائز الداخلية إلى أن يذيقوا العالم مما ذاقوه.
وهنا المشكلة ليست مشكلة مرارة الحرمان، بل هي مشكلة العوز الأخلاقي، ورغبة عارمة لوجود المشاعر الشبعية والجملية في ذات البعض، واحيانا تكون مشكلة العنصرية المقيتة، وشعور لا أدري نوعه أو لا أدري بما أصفه مهما حاولت وصفه؟ إن عدم عطاء الفاقد تكاد تكون مشكلة غياب للضمير وضعف وازع فطري، واضمحلال كياني ضخم وتحلل؛ نتيجة الإضطراب النفسي الداخلي والخارجي، وما يدعو ذلك إلا إلى الأسى، والتأسي حقا لكونها مشكلة عميقة تلك التي تُشتت الإنسان وتُضِيعه، وبدلاً من محاولة جعلها وسيلة لصقل الكيان الإنساني وتقويم الإعوجاجات تصبح وسيلة لكسر الكيان ونثره إلى أجزاء تَلقى على طريق الحياة.
فكم هو عجيب أن نرى عليلا يهرب من العلاج إلى أن يهلكه المرض، والأعجب من ذلك أن نراه يحض الناس في مثل حالته إلى عدم اخذ الدواء لمحاولة الإستشفاء.
الكاتب / طارق محمود نواب