الكاتب : أ.د محمد احمد بصنوي
توسعت المملكة العربية السعودية السنوات الأخيرة في إنشاء صناديق متخصصة لتمويل المشاريع الواعدة، وتحفيز الشباب على الإبتكار والإبداع، وضخت مليارات الريالات في هذه الصناديق، على أمل أن تساهم هذه الصناديق في تحقيق التنمية المأمولة، وتنويع مصادر الدخل، وخلق فرص عمل مُستدام، ولكن للأسف بعض هذه المشاريع لم يُوفق، وعلى سبيل المثال، قدم صندوق التنمية الصناعية 134 قرضا بقيمة إجمالية تجاوزت 13 مليار ريال، خلال عام 2023.، وتوزعت هذه القروض على قطاعات الصناعة والطاقة والتعدين والخدمات اللوجستية، بزيادة 21 % في عدد القروض المعتمدة، مقارنة بعام 2022، ومنذ تأسسيه قدم الصندوق قروضًا لأكثر من 4000 مشروع على مدار 50 عاما، وتجاوزت قيمة اعتمادات قروضه 180 مليار ريال، وفقًا لصحيفة الإقتصادية.
ليس هذا فقط، بل هناك مجموعة متنوعة من المؤسسات التي تدعم رواد الأعمال من خلال توفير القروض والتمويل، وذلك بهدف تعزيز الإبتكار ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة ، ومن هذه مؤسسة التدريب المهني و المؤسسات الحكومية المختلفة و بنك التنمية الإجتماعي الذي لديه برنامج تمويل لرواد الأعمال تصل إلى 500 ألف ريال سعودي، خلاف برنامج "إرادة" الذي يستهدف المشاريع الصغيرة والناشئة بسقف تمويل لايتجاوز 300 ألف ريال سعودي، ومبادرة المصانع الواعدة التي تدعم إنشاء مصانع جديدة بتمويل يصل إلى 50% وإلى ٧٥%من تكلفة المشروع في بعض المناطق ، وارتفعت التسهيلات المقدمة للشركات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر من القطاع المصرفي وشركات التمويل بنهاية الربع الأول 2024، إلى نحو 293.4 مليار ريال، وبزيادة قدرها 16% مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023..
ولو تم استغلال موارد هذه الصناديق والمؤسسات والمبادرات المختلفة بالشكل الأمثل، من خلال اختيار المشاريع بعناية،والإشراف على تنفيذها ومتابعتها إلى الإنتاج لكانت بلادنا اليوم في مصاف الدول الصناعية الرائدة إقليميًا وعالميًا، ولكن الواقع يشير إلى أن الكثير من المشاريع فشلت، مما أدى إلى تراكم الديون على رواد الأعمال، وإحباط طموحاتهم.
التمويل لم يتوقف فقط عند الصناعة والمشاريع الخدمية ،والمهن الفنية ، بل امتد إلى القطاع الزراعي ، حيث زاد معدل القروض التي تقدم من قبل صندوق التنمية الزراعية من 455 مليون ريال أي ما يوازي 121 مليون دولار في عام 2016، إلى أكثر من 7 مليارات ريال في نهاية عام 2024، من إجمالي 72 مليار ريال أي 19 مليار دولار قدمها الصندوق منذ تأسيسه وفقًا لصحيفة الشرق الأوسط، وهذه الأموال إذا انفقت بالصورة الصحية المدروسة المُثلى، لكنا الآن في غنى تام عن استيراد أي محاصيل من خارج المملكة، وخاصة مع تطبيق تقنيات الهيدربونيك والزراعة الذكية وغيرها من التقنيات الزراعية العالمية المعروفة ، فهذه التقنيات اثبتت نجاحها في عدة دول، وارضنا الصحراوية ابدا ليست بالعذر..
صحيح أن معدل عدم نجاح المشاريع الناشئة حول العالم كبير وضخم خاصة خلال أول 10 سنوات، حيث تشير الإحصائيات إلى أن هناك 472 مليون شخص في العالم يعرفون أنفسهم على أنهم رواد أعمال، ويتم تأسيس أكثر من 300 مليون شركة ناشئة في العالم كل عام، لكن هذه الأرقام لا تعكس الحقيقة، فالأبحاث تقول إن معدل إخفاق الشركات الناشئة خلال السنوات العشر من تأسيسها يصل إلى 90%، ولكن هذه النسبة يجب أن تنقلب رأسًا على عقب في المملكة، فيجب أن يكون معدل نجاح المشاريع 90%، ونسبة الفشل 10% أو أقل، وهذا أضعف الإيمان، خاصة أن المملكة وقيادتها الحكيمة لم تدخر جهدًا في توفير التمويل اللازم لهذه المشاريع بصورة ضخمة وعبر العديد من الصناديق كما أن الإستفادة من خبرات وتجارب الدول التي سبقتنا بعقود في مجال الزراعة ، ليؤكد امكانية استفادتنا على أكمل وجه.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هو سبب فشل المشاريع الناشئة رغم توفير التمويل اللازم بمليارات الريالات عبر العديد من الصناديق؟
الإجابة على هذا السؤال بسيطة وقد تكون من السهل الممتنع، فالبعض يعتقد أن نجاح مشروع مرتبط بتوفير التمويل اللازم ، وهذا ليس صحيحًا، فالتمويل قد يكون أسهل شيء يتم توفيره في بلادنا الغالية لإقامة المشاريع عبر الصناديق المختلفة، ولهذا من الممكن أن نختصر أسباب عدم نجاح هذه المشاريع في غياب الخبرة والكفاءة، حيث يفتقر الكثير من رواد الأعمال الخبرة اللازمة في تقييم المشاريع، والإدارة، والمتابعة، بالإضافة إلى عدم وجود دراسات جدوى واقعية، حيث يتم تمويل بعض المشاريع دون إجراء دراسات جدوى دقيقة، تأخذ في الإعتبار احتياجات السوق، والمخاطر المحتملة، خلاف نقص الدعم والإرشاد لرواد الأعمال حيث يحتاج رواد الأعمال إلى الدعم والإرشاد المستمر، للمساعدة على تجاوز التحديات التي تواجههم في بداية المشاريع ، كما أن عدم التنسيق بين الصناديق المختلفة يُؤدي إلى تكرار الجهود، وتشتت الموارد، بالإضافة إلى ضعف التركيز على القطاعات الصناعية ذات الأولوية، حيث يتم تمويل مشاريع في قطاعات غير واعدة، أو لا تلبي احتياجات السوق المحلية وتقلل الإستيراد.
ولهذا فإن هناك ضرورة ملحة لإنشاء (بيت استشاري اقتصادي لرواد الأعمال)، ويكون مهمته الإشراف على الصناديق المختلفة، وتقديم الدعم اللازم لرواد الأعمال، ويتكون هذا المجلس من خبراء في مجالات الإقتصاد، والإستثمار، وإدارة المشاريع، والصناعة، وريادة الأعمال، وتتمثل مهام هذا المجلس الإستشاري في تحديد الصناعات ذات الأولوية والإحتياج في المملكة، ووضع معايير دقيقة لاختيار المشاريع الممولة، مع التركيز على المشاريع الصناعية الواعدة، وتقييم دراسات الجدوى والتأكد من توافقها مع احتياجات السوق، ومتابعة أداء المشاريع الممولة، وتقديم التقارير الدورية، وهذا من شأنه يساهم في ترشيد الإنفاق، ويقلل من معدلات فشل المشاريع، ويحمي رواد الأعمال من تراكم الديون..
وأخيرًا وليس آخرًا، فلا أنسى أن أعرب عن خالص تقديري وامتناني لحكومتنا الرشيدة ، تلك الحكومة الكريمة التي منذ أن تأسست في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه فقد سخّرت جهودها لخدمة الوطن والمواطن، وسعت جاهدة لتحقيق الرفاهية والإزدهار، وخاصة في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان فما تم إنجازه عظيم يستحق الثناء والتقدير، فلقد وفرت الدولة العديد من الصناديق والبرامج الداعمة، التي تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل، وتمكين الشباب، ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وهذه الجهود المباركة تعكس رؤية القيادة الحكيمة، التي تسعى إلى بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة في كافة ربوع الوطن...