الاربعاء, 06 مارس 2024 11:44 مساءً 0 381 0
همس الوداع
همس الوداع

 

الكاتب - عوض احمد محمد الثقفي


 

 

في ليل أرخى على الكون سدوله وجر على الدنيا سكونه واختفى من ساحته نجم كان يتلألأ في سماء البهجة، ليل تداعت فيه أشباح الماضي فسحبت كل أوراق عمري وتناولت ورقة يومي ونثرت على رسمها من مآسي الجراح كل الحروف فتطايرت من وهج الذكريات لأتناثر أشلاء ممزقة في كل الأصداء موجوعة.

 

يتحامل عليها قلمي على جمعها في كلمات ثم تأبى الكلمات أن تعبر عما ينوء من ألم ووجد ليسقط جريحاً ينزف دماً أزرق على صفحات أيامي فكان جرحا عميقا أعمق من همس الوداع.

 

تذكرت يا أمي حثيث قدميك وأنت تطئين بها سكة العمر الفاني يقودها عكاز خبيث على أمل مزروع في السراب، قدماك التي حملت على عاتقها ذلك الجسد البالي الذي أنهكه المرض ورحلة العذاب والألم المر.

 

تعلقت ذاكرتي في سقف غرفتك الصغيرة فهرعت إليها فرأيت ابتسامتك المفعمة بحسرات الزمن منقوشة على صفحات أيامك الفاني، ولآلئ ثغرك مرصوصة أمام عيني على جدران الليالي تلك الليالي التي غنت لكل الدنيا لحن الحنان وأنا أسعد بالمثول بين يديك أرتشف للثمالة حباً حتى العطش.

 

تأملت ماضيك فرأيت سريرك المسكون بكل عذابات ذلك الزمن النشيج فعرفت أن المرض قد حل بجسدك البالي ذلك الجسد الذي أرهقته المسافات وأدمته أشواك الطريق فتيقنت أنه عائد إلى موات،

فكنت أسمع أنين آلامك صاخباً في دجى الليل متجاوزاً كل الآفاق الهادئة المستكينة من شدة الألم فبددني وجع غامر نأيت به عن كل البشر مستسلماً لصمت رهيب عزفت على أوتاره بدمع العين لحن الفراق.

 

كنت كلوحة أمام ناظري نقشتها يد رسام لايعرف للفن أصول اختلط دمع العين بمداد الرسم فانحدرت إلى صدى الأيام الغابرة، فتحولت إلى لوحة بالية عفتها رياح الزمن وشمس السنين الحارقة.

 

ثم تتوق نفسي المتعبة إلى رؤية ذلك الصفا الجاثم أمام بيتنا وتلك الشجرة المعطرة بغرس يديك 

فارتطم نظري على آثار أقدامك وشويهاتك تدور حولك تستجدي من يديك قوتها، وبإصرار لذيذ رأيتك ترتدين الجلباب الأزرق والرداء الأصفر وذلك العكاز المقوس وأنت تقبضين  

عليه بقوة تحاولين عبثاً تقفزين فوق خطاك لتشعري نفوسنا بالأمل الذي طال انتظاره بأنك لازلت قوية وأن المرض قد أفل إلى المغيب.

 

رأيتك يا أمي من جديد كلمات عذبة تورق على صفحات الوجود تجولين بين أغصان العنب والرمان في مزرعتنا فتتبعت أثرك فعندما لم أجدك نسجت من أوراقها عبرات أوهن من نسج العنكبوت..

 

وأعود يا أمي أبحث عن هزيع من الليل يجمعنا فيه اغتراب ودهشة فلا أجد ومن الهزيع إلى الهزيع إلى 

انبلاج الفجر أنت ... أنت .. ولا أحد...

 

استدار عليك الزمن وطوى صفحات عمرك ولف أيامك في كف السنين واستأذن الركب في الرحيل إلى عالم برزخي لانتظار يوم الفزع الأكبر.. لنصبح بين عشية وضحاها ونحن ندور في دوامة الحياة ولا نستقر نفتش عن بقايا إنسان وعن رفات حب وعندما نفيق من تداعيات الشقاء ندرك واقعاً نحياه فتجرعنا الألم والحسرة ودموع الفراق حتى ذلك العكاز بقي معلق في حبائل الوحدة.

 

أيتها الموغلة في شرايين الجسد لم يعد في الجسد مدى للفرح والسكون ومرآتك ليلك أفضت إلى جمود وشموع قصرك العتيق أوت إلى خمود فلقد عم الكون صمت رهيب أكثر من رهبة الموت ومن الفقد، وفي غمرت الخيال الموجع انسابت إلى أنفي رائحة الريحان المغروس بيديك تحت النافذة 

ثم دوي في سمعي صوت بعثر مشاعري قائلا: إنها ماتت ... إنها ماتت.

رحمك الله يا أمي وجمعنا بك في الفردوس الأعلى من الجنة.

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر المحتوى

ابراهيم الحكمي
مدير الدعم الفني

شارك وارسل تعليق

سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من إرسال تعليقك

أخبار مقترحة