الشيخوخة ..

 
تعتبر الحياة بما فيها من تقدم في العمر، نموذجاً عميقاً عن جوهر الوجود البشري. فهذه الطبيعة البشرية هي التي تشدنا وتدفعنا لنتطلع إلى أن تكون شيخوختنا هي المدرسة العظمى لأجيال أصغر سناً. فمن خلال أعواد الزمان وتجارب الحياة ، نكتسب المعرفة والحكم ، وننمي قدراتنا وتطورنا ، ولكي نصبح أفضل نسخ من أنفسنا وأسلافنا. فإذا ما اتخذنا الحياة رفيقة ومعلمة في النمو والمثابرة، فسوف يرتقي الجيل القادم بناحيتنا ويسير على خطانا ، مطوراً ومتفوقاً .
ولكي ينعم المرء بشيخوخة طيبة ، عليه أن يحافظ على فضول الطفولة الذي لا ينضب وطموح المراهقة الذي لا يغيب ، ولكن من دون الأوهام المرتبطة به. فالشيخوخة هي مرحلة مهمة في حياة الإنسان، تحمل في طياتها الكثير من الخبرات والحكمة إذا ما تمكنا من تفادي الفخاخ التي تنتظرنا في طريقنا نحوها .
فعندما نتحدث عن الشيخوخة، غالباً ما نربط بينها وبين الأمور الخارجية، مثل علامات التقدم في العمر، وتجاعيد الوجه، وتغير لون الشعر. ولكن هل يكفي ذلك لقياس جودة الشيخوخة؟ أو هل هناك معيار آخر يمكننا الإعتماد عليه لقياس سعادتنا في هذه المرحلة من الحياة؟
فالشيخوخة الطيبة ليست مجرد مسألة ظهور خارجي، بل هي تجربة عميقة تشمل النضج العاطفي والروحي والفكري. كما إنها تتعلق بمدى استفادتنا من الخبرات التي مررنا بها في مراحل حياتنا السابقة... فتلك التي تظهر عندما يتحول الإنسان إلى معلم يمكنه مشاركة حكمته وتجاربه مع الأجيال الجديدة.
وفي ذلك نجد أن فضول الطفولة هو العامل الذي يجعلنا نظل مفتونين بالعالم من حولنا. فذلك الفضول هو القوة الخفية التي تدفعنا لاكتشاف أشياء جديدة وتجربة تجارب مختلفة. وإذا استسلمنا للروتين وتوقفنا عن التساؤل والإستكشاف، فإننا نفقد جزءاً كبيراً من متعة الحياة.
أما طموح المراهقة، فهو القوة التي تدفعنا للسعي نحو أهدافنا وتحقيق أحلامنا. وفي هذه المرحلة، تمتلئ حياتنا بالطموح والتفاؤل، ونؤمن بأنه يمكننا تحقيق أي شيء نريده. وإذا استمر هذا الطموح والإصرار على مر السنين، فإنه يمكن أن يكون مصدر إلهام ودافع لنا حتى في سنوات الشيخوخة.
لكن هذا لا يعني أنه عندما نصبح في سن الشيخوخة يجب علينا البقاء في حالة من الأوهام وعدم الإعتراف بتقدمنا في العمر. فالشيخوخة تأتي مع مزاياها الخاصة، مثل الاستقرار العاطفي والوعي بالأمور الأساسية في الحياة. إنها الفترة التي يمكننا فيها التمتع بالهدوء والسكينة، والتفكير بعمق في معاني الحياة.
لذا، لكي ننعم بشيخوخة طيبة، يجب علينا الإحتفاظ بالفضول والطموح، وفي الوقت نفسه، علينا أن نتقبل التقدم في العمر بكل رحابة صدر وحكمة. فإنها فترة يمكننا فيها تقدير اللحظات الصغيرة والإستفادة من الحكمة التي اكتسبناها على مر السنين. وهي أيضاً الفترة التي يمكننا فيها أن نكون مثالاً حياً للأجيال الصاعدة، ونشارك تلك الحكمة والتجارب معهم ونرى ثمرة جهدنا. وإذا فعلنا ذلك بشكل صحيح، فسننعم بشيخوخة طيبة تمتد للأبد، حيث أن العمق والحكمة هما السمات السائدة في هذه المرحلة المهمة من الحياة.
فتجربة الحياة ليست حساباً للزمن بل هي مغامرة مستمرة، حيث يتعرض الإنسان لمختلف التحديات والتجارب والمواقف. ولكن لا يكفي أن يتمتع الإنسان بالخبرة فقط، بل يجب أن يتمتع بالقدرة على استنباط الحكمة من تلك التجارب والخبرات وتحويلها إلى دروس قيمة.
فعندما ننظر إلى الشيخوخة من هذا الزاوية، ندرك أنها تمثل فرصة ذهبية للنضج والتطور الشخصي. فهي اللحظة التي يمكن فيها للإنسان أن يستكشف أعمق أفكاره وأحلامه. وهي الوقت الذي يمكن فيه للإنسان أن يخلص من الأعباء اليومية ويتفرغ للإستفادة من الأشياء التي تجلب له السعادة الحقيقية.
وبالنظر إلى مضمون حياتنا، نجد أنها عبارة عن مجموعة من الصفحات، كل صفحة تحمل مغامراتها وتحدياتها، ونجدها أيضاً مجموعة من اللحظات التي نعيشها، والقرارات التي نتخذها، والعلاقات التي نبنيها. وكل صفحة تساهم في بناء شخصيتنا وتشكيل مصيرنا.
فالشيخوخة لا تعتمد فقط على عدد الصفحات التي قرأناها في حياتنا، بل تعتمد أيضاً على كيفية قراءتنا لتلك الصفحات. كما إنها تعتمد على الحكمة التي اكتسبناها من تلك الصفحات، وعلى العمق الذي نجلبه إلى تجربتنا.
فإذا نظرنا إلى الشيخوخة على أنها عمق الحكمة ونضج الفكر، فسنجد أن هذه المرحلة يمكن أن تكون من أكثر الفترات إشراقاً في حياة الإنسان. فلنُلهم شبابنا بجمال الرحل وحلاوة الوقت، ولتكن شيخوختنا هي الهدى والنور القادم لأمة تعلو أعتاب التاريخ.

الكاتب / طارق محمود نواب
صحيفة شبكة نادي الصحافة الإلكترونية