حتى لا نُقتل بالمرض الهولندي .

سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

حتى لا نُقتل بالمرض الهولندي .


  في البداية يُعرف المرض الهولندي في علم الإقتصاد، بالعلاقة الظاهرة بين ازدهار التنمية الإقتصادية بسبب وفرة النفط والغاز، وانخفاض أو تدهور قطاع الزراعة أو الصناعات التحويلية، حيث يؤدي ارتفاع العائد من النفط إلى ارتفاع قيمة العملة بالمحلية، وبالتالي تراجع القدرة على التصدير في القطاعات غير النفطية، بسبب ارتفاع تكلفة إنتاج السلع والخدمات الأخرى، مما ينعكس على زيادة الواردات، وتراجع النمو الإقتصادي في كافة القطاعات غير المرتبطة بالنفط والغاز. وسميت هذه الحالة بالمرض الهولندي، لأن اقتصاد أمستردام حتى  منتصف خمسينات القرن الماضي، كان يتميز بالتنوع بين  كافة القطاعات، حتى اكتشفت هولندا الغاز بكميات كبيرة، وهذا الأمر كان بمثابة نقطة تحول كُبرى، حيث تحول  الإقتصاد إلى ريعي يعتمد على عائدات النفط، وتوفر الدولار بوفرة كبيرة، وأصبح سعر "الجلدر" الهولندي مرتفعًا، وبالتالي أصبحت القطاعات الأخرى أقل تنافسية، وعزف المجتمع عن العمل في القطاعات الزراعية والصناعية، وتوجه نحو القطاعات الإدارية والخدمية أو النفطية، لما تحققه من عائد مادي أكبر، أو واجهة اجتماعية أفضل، وهذا ساهم في ارتفاع مستوى البطالة من 1.4% في عام 1971 لـ5.8   في عام 1979.

صحيح ، أن أمستردام استطاعت التعافي بقوة من هذا المرض الذي أصاب الكثير من الدول العربية النفطية الآن، وتعتبر الآن من أهم القوى الإقتصادية في العالم، وتجاوزات الصادرات الزراعية الهولندية الـ100 مليار دولار في2021 ، ولكن هذا ليس بسبب النفط او الغاز، فالإقتصاد الهولندي يعتمد الآن على أشياء غير معقدة وغير تكنولوجية صعبة المنال، فتحقيق التقدم المنشود قد يكون بأشياء بسيطة سهلة، عكس ما هو معتقد لدى البعض، حيث وصل حجم العائد من  تصدير الأزهار  5.7 مليار دولار  في عام 2021، وهو ما يمثل أكثر من نصف تجارة الزهور العالمية، واللحوم  بقيمة 9.1 مليار دولار، والألبان والبيض بقيمة 4.3 مليار دولار، والخضروات بقيمة 3.9 مليار دولار، وعائدات القطاع السياحي وصلت لـ 17 مليار دولار، وفقًا لمكتب الإحصاء  الوطني في هولندا "سي بي إس".

 ولكن السؤال الآن هل أصاب المرض  الهولندي المملكة والدول العربية الغنية بالنفط والغاز؟ الإجابة على هذا السؤال تمكن في السطور التالية، فالنفط الذي يشكل 80% من صادرات المملكة وفقًا لموقع دوتش فيله الألماني، هو المشغل الرئيسي للتنمية في البلاد، وتتأثر  الموازنة إيجابًا أو هبوطاً بأسعار النفط، وهناك استنزافًا لموارد المملكة بسبب الإعتماد على العمالة الأجنبية، خاصة في بعض الوظائف غير المرغوبة لدى المواطن السعودي مثل العمل في قطاع التشييد والبناء، والنظافة، بسبب النظرة الدونية لهذه الوظائف، ويبحث  الشباب عن الوظائف الخدمية أو الإدارية ذات الدخل المرتفع، أو على الأقل ذات الدخل المتوسط، وتحقق الوجاهة الإجتماعية، وهذا ما حدث بالضبط في هولندا قبل انتهاء عصر الغاز عن أمستردام.

 بالتأكد حققت المملكة في الفترة الأخيرة بعض النجاحات في تنويع مصادر الدخل، حيث ارتفعت الصادرات غير النفطية بنسبة 13.7% على أساس سنوي في 2022، كما تحسن ترتيب المملكة على مؤشر تنمية السياحة والسفر، الذي يصدر كل سنتين عن المنتدى الإقتصادي العالمي، ففي عام 2019 كانت السعودية تحتل المرتبة 43 على مستوى العالم، وفي 2021 ارتفعت إلى المركز 33 ، إلا أن هذا الجهد ليس كافيًا، خاصة إذا علمت أن احتياطيات النفط في البلاد، يمكن أن تستمر، وفق معدلات الإستخراج الحالية، إلى حوالي 60 عاما أخرى وفقًا لموقع دوتش فيله الألماني.

 الأمر لا يتعلق فقط بالمملكة، بل انتشر هذا المرض كالنار في الهشيم في معظم الدول العربية المنتجة للنفط، فبدلاً أن تتحول هذه الثورة كعنصر مساعدًا للإقتصاد لدفعة نحو الأمام، وتوفير التمويل اللازم لعملية التنمية الشاملة،  حدث العكس تمامًا، وحدث تدهور كبير في  القطاع الزراعي والصناعي، خاصة في دولة العراق الشقيق، وأصبحت تعتمد على عوائد النفط والغاز بنسبة 95%،  والكويت تمول ما يصل  من 90% من مصروفات الموازنة العامة من عوائد النفط، أما الجزائر فيشكل النفط والغاز الطبيعي المسيّل، ثروة البلاد الرئيسية وأخطرها على مستقبل البلد، فهي تمثل 97% من المداخيل من العملة الصعبة.
 
  واخيرًا وليس آخرًا، ما ذكرته سابقًا ليس تحريضا على النفط والغاز، فهذه ثروة حقيقة  ونِعم من الله عز وجل، وفرصة جدية للمساعدة في بناء اقتصاد حقيقي متكامل، ولكن هناك ضرورة لأخذ العبرة من التجربة الهولندية، حتى لا نُصاب بلعنة الثروات، وهذه ليست دعوة لتكرار ما فعلته أمستردام في تنويع اقتصاديها، فلكل بلد خصوصيته وموارده الخاصة التي تميزه عن غيره، ولكنه دعوة مُلحة لإعداد هيكلة حقيقة للإقتصاد، حتى يصبح متنوع وقادر على التعامل مع كافة الأزمات، وهذا لن يتحقق إلا بخلق اقتصاد قائم على التنمية الشاملة في كافة القطاعات.


الكاتب / أ.د: 
 محمد بصنوي


غاليه الحربي غاليه الحربي
المدير العام

المالكة ومدير عام ورئيس تحرير صحيفة شبكة الصحافة للنشر الالكتروني - مدير عام المنابر التعليمية والتربوية بالشبكة

0  161 0

الكلمات الدلالية

آخر المعجبين بالخبر

التعليقات


اكتب تعليقك هنا

اخبار مشابهة

اخبار مقترحة