رمضان في بيت جدي
بقلم : رانيا مروان الخطيب
شبكة نادي الصحافة السعودي
الناشر: وسيلة الحلبي
من السهولة مقارنة الأيام ببعضها ولكن من الصعوبة مقاومة مشاعر الحنين التي تأخذ بأيدينا إلى الذكريات.
لوحات من الماضي في بيت جدي الكائن في حي قديم تتكاتف فيه المنازل القديمة التي تعبق بعطر الطيبة والبساطة، شرفاتها تصافح بعضها بعضا فلو وقفت على إحداها لأمكنك رؤية داخل المنزل وأهله والتي كانت ممنوعه على الرجال، ليس لقانون فرض ولكن لأخلاق نشأ وتربى عليها الرجل.
أحببت قضاء شهر رمضان في حي يعرف فيه الجميع بعضهم، إحدى لوحاته لفتيان وفتيات الحي حاملين أطباق الطعام يتبادلونها، أتأملها كل يوم من شرفة بيت جدي الذي يقع في الدور الأول مما جعلني قريبة من الأحداث التي تدور في الحي والتي اثارت فضولي وجعلتني اسأل جدتي لماذا يتبادلون الأطباق فأجابتني: عملا بقول رسولنا الكريم (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت جيرانك فأصبهم بمعروف) هكذا نطبق الحديث الشريف وتزدان سفرنا جميعا بأطباق مختلفة تفرح قلوب اصحابها بأنك تذكرتهم وقلوب أطفال يأبون الإفطار من طبيخ أمهاتهم كأمثالي، ففي إحدى المرات بكيت ورفضت أن أفطر عندما علمت ان جدتي اعدت المحاشي، وما زاد من حنقي أنها كانت تبادل دموعي بالابتسام، وإذ بالباب يقرع ففتحت لأجد أحمد ابن الجيران يسلمني طبقا من الكبة فعدت الى جدتي بابتسامة المنتصر أراقص الطبق وكأنه هدية اتتني وأغني لها أتاني إفطاري.
فهمت معنى التكافل والتعاون الذي تربى عليه اجدادنا ومعنى ان نعين الفقير لقول رسولنا الكريم (ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه) فقد كان في الحي أرملة تعيل خمسة أطفال وتسكن في منزل مؤلف من غرفتين، واتخذت في إحداها زاوية وأطلقت عليها دكانة أم يوسف للسكاكر، فإذا أتاها أحد الصبية بطبق تسرع في إفراغه وغسله، ورغم عوزها إلا أنها كانت تأبى أن تعيد الطبق فارغا فتهرع إلى دكانها وتضع فيه بعض السكاكر.
وللوحة السحور في بيت جدي سحر مختلف، فقد كنت استيقظ على صوت الطبال وقرع طبله وهو ينادي: يا أبو أحمد يا أبو مصطفى اصحوا على سحوركم أتى رمضان يزوركم، فاهرع الى الشرفة امتطي الكرسي لأراقب المنازل تنفض غبار النوم عن نوافذها لتضاء بصحوة أصحابها فتأتي جدتي لتقف أمامي خوفا أن أقع من الشرفة، فيظن رجال الحي الذاهبين لشراء الخبز الساخن أنها تحتاج شيئا فيسألونها يا أم سعيد أنجلب لك شيئا تحتاجينه من السوق، حقا كانت أيام طيبة وخير.
قبل أن تصدح المآذن بآذان الفجر يتسابق رجال الحي الخطى للوصول إلى المسجد، وما أن يفرغوا من الصلاة ويعودا الى منازلهم حتى تعود النوافذ الى سباتها الا نافذة جدتي.
أعود إلى سرير جدي أتسلقه لأجد جدتي تستلقي في سريرها لتبدأ فصل جديد من فصول العبادة تلزمه يوميا في شهر رمضان وغيره من الشهور، فتفتح النافذة قرب سريرها وتحمل سبحتها وتبدأ بالتسبيح الى شروق الشمس، عندها تختم عبادتها بالدعاء لأولادها وأزواجهم وزوجاتهم مع أحفادها جميعا، عندها أيقن ان جدتي ستخلد إلى النوم فأغفو بعد أن أطمن بأن هناك سميع مجيب لجدة ضمتني بدعائها عند رب كريم.
نعم إنها صور أيام من رمضان المبارك ولكنها لا تشبه صور أيامنا المباركة الآن بذكرياتها.
كم أحن لتلك الأيام ولبيت جدي والزقاق.
أحن لأم أحمد وأم يوسف وغيرهن.
أحن لكرسي صنعه جدي للأحفاد كي يتسلقوه لتلتقط أعينهم صور أهل الحي وطيبتهم.
أحن لأرضية بيت جدي الملونة ولأبوابه العالية كحرس تأبى بعلوها أن تدع سرا يخرج من الغرفة.
أحن إلى كل ذلك، وأحن إلى رمضاني في بيت جدي.
* مستشارة أسرية