إدارة الحشود في الحرمين الشريفين رؤى مستقبلية لتحسين تجربة الزوار
بقلم: د. داليا العمر
يُعَدُّ شهرُ رمضانَ المباركُ موسمًا استثنائيًّا، يتوافدُ فيه ملايينُ المسلمينَ من مختلفِ بقاعِ الأرضِ إلى الحرمينِ الشريفينِ، طمعًا في مضاعفةِ الأجرِ والثوابِ. فقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً". وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحرامَ، وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ خيرٌ من مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سواه". هذا الحديثُ الشريفُ يبينُ عظمةَ الصلاةِ في المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ، وهو ما يدفعُ المسلمينَ لشدِّ الرحالِ إلى الحرمينِ الشريفينِ خلالَ شهرِ رمضانَ المباركِ.
استجابةً لهذا التدفقِ الهائلِ من الزوارِ، قامت المملكةُ العربيةُ السعوديةُ بمشاريعَ توسعيةٍ ضخمةٍ في الحرمينِ الشريفينِ، بهدفِ استيعابِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من المصلينَ والمعتمرينَ. ارتفعتِ الطاقةُ الاستيعابيةُ للمسجدِ الحرامِ بمكةَ المكرمةِ إلى ما بين 770,000 ومليونِ مصلٍّ في الأيامِ العاديةِ، بينما في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، وخصوصًا في ليلةِ السابعِ والعشرينَ، تتجاوزُ الأعدادُ ذلك بكثيرٍ. في هذا العامِ تحديدًا، شهد الحرمُ المكيُّ في ليلةِ 27 رمضانَ حضورًا قياسيًّا، حيث بلغ عددُ المصلينَ والمعتمرينَ أكثرَ من 3.4 مليونِ شخصٍ، وهو عددٌ غيرُ مسبوقٍ يُظهرُ مدى الشغفِ الإيمانيِّ للمسلمينَ في هذه الليلةِ المباركةِ. أما المسجدُ النبويُّ في المدينةِ المنورةِ، فقد بلغت طاقتُه الاستيعابيةُ بعدَ التوسعاتِ حوالي 650,000 مصلٍّ، وتصلُ إلى مليونِ مصلٍّ في أوقاتِ الذروةِ.
على الرغمِ من التوسعاتِ الضخمةِ، فإن إدارةَ الحشودِ تبقى تحديًا كبيرًا خلال شهرِ رمضانَ، خاصةً في العشرِ الأواخرِ. ومن أبرزِ التحدياتِ:
1. النومُ داخلَ الحرمِ: يلجأُ بعضُ الزوارِ إلى افتراشِ الأرضِ بين الصلواتِ أو النومِ في الحرمِ أثناءَ الليلِ في المصلياتِ، مما يؤدي إلى إشغالِ مساحاتٍ مخصصةٍ للصلاةِ وإعاقةِ الحركةِ.
2. إدخالُ الأطعمةِ الدسمةِ: يقومُ بعضُ الزوارِ بإدخالِ أطعمةٍ ثقيلةٍ إلى الحرمِ، مما يتسببُ في مشكلاتِ نظافةٍ ويؤثرُ على راحةِ المصلينَ وأخذِ أماكنَ أكبرَ للتجمعِ مع الوجبةِ.
3. تغييرُ حفائظِ الأطفالِ داخلَ الحرمِ: سلوكٌ غيرُ لائقٍ يخلُّ بقدسيةِ المكانِ.
4. استخدامُ ماءِ زمزمَ لغيرِ الشربِ: البعضُ يستخدمُ ماءَ زمزمَ لغسلِ الملابسِ أو الوضوءِ، رغمَ توفرِ أماكنَ مخصصةٍ لذلك.
5. تبديلُ الملابسِ داخلَ الحرمِ: تصرفٌ غيرُ مقبولٍ يؤدي إلى تشويهِ المشهدِ العامِ.
6. غسلُ الملابسِ ونشرُها بالحرمِ: في تصرفٍ غريبٍ وغيرِ حضاريٍّ، تقومُ بعضُ الجالياتِ باستغلالِ ماءِ زمزمَ لغسلِ الملابسِ ونشرِها داخلَ الحرمِ.
7. تجهيزُ الطعامِ داخلَ الحرمِ: تم رصدُ بعضِ الزوارِ يقومونَ بتجهيزِ الطعامِ داخلَ الحرمِ، وهو أمرٌ غيرُ مقبولٍ ويتسببُ في تلوثِ المكانِ.
8. عدمُ احترامِ رجالِ الأمنِ والمنظمينَ: يواجهُ العاملونَ صعوبةً في ضبطِ النظامِ في ظلِّ رفضِ بعضِ الزوارِ الامتثالَ للتعليماتِ.
9. حجزُ الأماكنِ: يلجأُ البعضُ إلى حجزِ أماكنَ في المصلياتِ لأقاربِهم وأصدقائِهم، مما يحرمُ الآخرينَ من فرصةِ الصلاةِ في أماكنَ مريحةٍ.
في موسمِ رمضانَ الحاليِّ، شهدت منصاتُ التواصلِ الاجتماعيِّ انتشارًا واسعًا لمقاطعَ فيديو تُظهرُ استياءَ المنظمينَ والزوارِ من بعضِ التصرفاتِ غيرِ اللائقةِ التي صدرت عن زوارٍ من جنسياتٍ معينةٍ. هذه المشاهدُ تعكسُ حجمَ التحدياتِ التي تواجهُها الجهاتُ التنظيميةُ، وتبرزُ الحاجةَ إلى حلولٍ أكثرَ فاعليةً لضمانِ التزامِ الجميعِ بالأنظمةِ والتعليماتِ. مثلُ هذه الممارساتِ تؤدي إلى تشويهِ التجربةِ الروحانيةِ للزوارِ الآخرينَ، وتزيدُ من الضغطِ على الكوادرِ التنظيميةِ والأمنيةِ. ولهذا، أصبح من الضروريِّ تطبيقُ أنظمةِ رصدٍ متقدمةٍ لمتابعةِ المخالفاتِ والحدِّ منها.
في خطوةٍ متقدمةٍ، أطلقتِ الهيئةُ السعوديةُ للبياناتِ والذكاءِ الاصطناعيِّ (سدايا) بالتعاونِ مع وزارةِ الداخليةِ منصةَ "بصير"، التي تعتمدُ على الذكاءِ الاصطناعيِّ في تحليلِ حركةِ الحشودِ داخلَ المسجدِ الحرامِ. توفرُ هذه المنصةُ إمكانياتٍ متقدمةً في تتبعِ الحشودِ، واكتشافِ الحركةِ في الاتجاهِ المعاكسِ، والمساعدةِ في العثورِ على المفقودينَ، مما يضمنُ كفاءةً عاليةً في إدارةِ الحشودِ. وعلى الرغمِ من النجاحِ الذي حققتْه منصةُ "بصير"، إلا أن استخدامَها لا يزالُ في مراحلِه الأولى. فأقترحُ أنَّه بدلًا من الاعتمادِ عليها فقط في مراقبةِ الحشودِ وتنظيمِها، يمكنُ تطويرُها لتشملَ رصدَ المخالفاتِ السلوكيةِ، مثلَ النومِ في المصلياتِ، أو إدخالِ الأطعمةِ، أو أيِّ تصرفاتٍ مسيئةٍ. كذلك، قامت الرئاسةُ العامةُ لشؤونِ المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ بتطويرِ نظامِ الكاميراتِ الحراريةِ وعملياتِ الفرزِ البصريِّ. وأقترحُ كذلك استخدامَها للآتي:
• رصدُ المخالفاتِ التنظيميةِ بدقةٍ عاليةٍ.
• توثيقُ المخالفاتِ لتقديمِ أدلةٍ واضحةٍ في حالِ فرضِ غراماتٍ أو عقوباتٍ.
• تحليلُ سلوكياتِ الزوارِ لتحديدِ المناطقِ التي تحتاجُ إلى تعزيزِ الرقابةِ.
وأرى أن الحلَّ الأمثلَ يكمنُ في تنفيذِ مجموعةٍ من الإجراءاتِ الفعالةِ، وأقترحُ ما يلي:
- التدريبُ الإلزاميُّ قبلَ منحِ التأشيراتِ:
- إلزامُ المعتمرينَ والزوارَ من الجنسياتِ التي سُجلت عليها مخالفاتٌ خاصه والجميع عامه بحضورِ دوراتٍ تدريبيةٍ عن آدابِ الحرمِ.
- توضيحُ القوانينِ والارشادات والعقوبا المترتبةِ على المخالفاتِ.
- فرضُ غراماتٍ ماليةٍ:
- فرضُ غراماتٍ ماليةٍ على المخالفينَ عندَ تكرارِ السلوكياتِ غيرِ اللائقةِ.
- في حالةِ التكرارِ، يتمُ ترحيلُ الزائرِ ومنعُه من منحِه تأشيرةً مستقبلًا.
- مراقبةٌ مستمرةٌ بالكاميراتِ الذكيةِ:
- توسيعُ استخدامِ الكاميراتِ الذكيةِ لرصدِ المخالفاتِ بشكلٍ أكثرَ دقةٍ.
- استخدامُ الذكاءِ الاصطناعيِّ لتتبعِ السلوكياتِ غيرِ اللائقةِ.
- نظامُ تقييمِ الجنسياتِ وتأثيرُه على منحِ التأشيراتِ:
- التقييمُ السنويُّ: تقومُ الجهاتُ المعنيةُ بتقييمِ سلوكياتِ الزوارِ من مختلفِ الجنسياتِ، بحيثُ إذا حصلت جنسيةٌ معينةٌ على تقييمِ 5 من 5 من حيثُ الالتزامِ، يتمُّ زيادةُ عددِ التأشيراتِ الممنوحةِ لها في الموسمِ القادمِ.
- تقليلُ التأشيراتِ في حالِ المخالفاتِ: إذا سُجلت على جنسيةٍ ما معدلاتٌ عاليةٌ من المخالفاتِ، يتمُّ تقليلُ عددِ التأشيراتِ الممنوحةِ لها، مع إمكانيةِ زيادتِها في حالِ تحسنِ الالتزامِ في المواسمِ اللاحقةِ.
- إنَّ نجاحَ هذه المبادراتِ يتطلبُ رؤيةً إبداعيةً ومرنةً في صياغةِ التشريعاتِ والتنظيماتِ، وهو ما يجعلُ من الضروريِّ الاستعانةُ بالكفاءاتِ الشابةِ في هذا المجالِ. فالشبابُ، بحكمِ احتكاكِهم بالتقنياتِ الحديثةِ وتجاربِهم المتنوعةِ، يمتلكونَ أفكارًا مبتكرةً يمكنُ أن تحدثَ فرقًا كبيرًا. وكما أنَّ وليَّ العهدِ الأميرَ محمدَ بنَ سلمانَ ـ قائدَ النهضةِ الشبابيةِ في المملكةِ ـ يؤمنُ بدورِ الشبابِ في بناءِ المستقبلِ، فإنه من الواجبِ على وزارةِ الحجِّ والعمرةِ والجهاتِ المعنيةِ استقطابُ الشبابِ المبدعينَ لتشكيلِ لجانٍ استشاريةٍ شبابيةٍ. يمكنُ لهذه اللجانِ اقتراحُ حلولٍ جديدةٍ مستندةٍ إلى التجاربِ العالميةِ في إدارةِ الحشودِ، واقتراحِ طرقٍ مبتكرةٍ لتعزيزِ تجربةِ الزوارِ والمعتمرينَ. إنَّ الاستثمارَ في العقولِ الشابةِ لا يقتصرُ فقط على تقديمِ أفكارٍ مبتكرةٍ، بل يساهمُ أيضًا في تطويرِ التشريعاتِ لتكونَ أكثرَ مواكبةً للعصرِ، مما يضمنُ إدارةَ الحشودِ بكفاءةٍ عاليةٍ مع تقليلِ المخالفاتِ وتحسينِ تجربةِ الزوارِ بشكلٍ عامٍ. لقد وفرتِ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ كلَّ الوسائلِ الممكنةِ لضمانِ راحةِ وسلامةِ زوارِ الحرمينِ الشريفينِ، مستعينةً بأحدثِ التقنياتِ لتسهيلِ أداءِ العباداتِ بأمانٍ. ومع ذلك، فإنَّ التعاونَ من قبلِ الزوارِ والتزامَهم بالتعليماتِ يُعَدُّ عاملًا أساسيًا لضمانِ نجاحِ هذه الجهودِ. أنا أؤمنُ بأنَّ تطبيقَ تشريعاتٍ حديثةٍ تعتمدُ على الذكاءِ الاصطناعيِّ ورصدِ المخالفاتِ بشكلٍ أكثرَ دقةٍ، إلى جانبِ استقطابِ العقولِ الشابةِ لتطويرِ هذه الأنظمةِ، سيسهمُ في تقديمِ تجربةٍ روحانيةٍ مريحةٍ وآمنةٍ لجميعِ المسلمينَ في الحرمينِ الشريفينِ.