*من أهم الأذرع الاقتصادية*
تعتبر المملكة واحدة من الدول التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط كمصدر رئيسي للدخل الوطني، ومع تزايد مخاطر التقلبات في سوق النفط، وضغوط الاقتصاد العالمي، أصبح من الضروري العمل على تنويع مصادر الدخل لتعزيز الإستقرار الإقتصادي، وتحقيق التنمية المستدامة ، ويعد الإستثمار وسيلة رئيسية لتنويع مصادر الدخل، ولذلك تركز المملكة على استقطاب الإستثمارات الأجنبية والمحلية في قطاعات غير النفط، مثل الصناعة، والتكنولوجيا، والزراعة، والطاقة المتجددة، والبنية التحتية، ويهدف هذا التحول إلى تعزيز القدرة التنافسية لبلادنا في الأسواق العالمية، وتحقيق تنمية مُستدامة، وتنويع الفرص الاقتصادية، وزيادة دخل المواطن وحجم الناتج القومي.
ورغم تجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي للمملكة 4 تريليونات ريال بما يوازي "1.11ترليون دولار"، لأول مرة تاريخيا، متجاوزا توقعات وزارة المالية السعودية البالغة 3.957 تريليون ريال "1.055 تريليون دولار"، واحتلال المملكة المركز الـ17 بين أكبر اقتصادات العالم خلال العام الماضي، بما يمثل 1.1 % من حجم الاقتصاد العالمي الذي يقدر بـ 100.22 تريليون دولار وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي، إلا أن الاستثمار الأجنبي المباشر انخفض بنسبة 60% في عام 2022، في أول تراجع سنوي له منذ 5 سنوات وثاني أكبر انخفاض منذ أكثر من 15 عامًا، حيث بلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي العام الماضي 7.9 مليارات دولار، وفقاً للبيانات الصادرة عن البنك المركزي السعودي "سما"، في حين جذبت هونج كونج التي لا يزيد عدد سكانها عن 7 مليون نسمة استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 103 مليار دولار، وحققت الولايات المتحدة استثمارات بقيمة 92.4 مليار دولار، أما الإستثمارات الاجنبية في سنغافورة فقدرت بـ67.5 مليار دولار في نفس المدة.
ما سبق ذكره من بيانات ومؤشرات اقتصادية، يضع الاستراتيجية الوطنية للإستثمار على المحك، خاصة وأن الإستراتيجية تستهدف زيادة صافي تدفقات الإستثمار الأجنبي المباشر إلى 388 مليار ريال ما يوازي 103.5 مليار دولار بحلول عام 2030 أي مضاعفة صافي الإستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى البلاد بنحو 19 مرة خلال 10 أعوام من 2021 وحتى 2030، ولذلك هناك ضرورة لإدخال هذه الإستراتيجية حجُرة "الإنعاش"، من خلال اتخاذ عدة خطوات بشكل سريع وبدون تأخير أو تردد، بعيدًا عن البيروقراطية التي تعيق أي تقدم، أو تمنع من تنفيذ الاستراتيجيات الوطنية، أو تقيد أي نجاح ممكن، بسبب بعض الاجراءات العقيمة، أو عدم توفر البيانات الدقيقة المحدثة من خلال التنسيق بين كل الوزارات والهيئات.
ومن هنا أصبحت الحاجة لإنشاء " جهة " تحدد الفرص الإستثمارية المتاحة، في كافة المجالات سواء القطاع الزراعي أو الصناعي او التكنلوجي او السياحي، ومساعدة المستثمر في إعداد دراسة جدوى حقيقية من أرض الواقع، وهذا الامر لا يمكن أن يتحقق، إلا من خلال توفير المعلومات الموثوقة والشاملة للمستثمرين المحتملين، لكي يستطيع التعرف على الفرص الإستثمارية المتاحة، هذا الإقتراح يتطلب دراسة وتخطيط دقيق لإنشاء هذه الجهة، وتوفير الموارد اللازمة والتعاون مع الجهات الحكومية المختلفة، باستخدام تكنولوجيا متقدمة في التحليل البياني، ويمكن لهذه الجهة أن تصنف الفرص الإستثمارية حسب القطاع الصناعي، والمنطقة الجغرافية، ونسبة العائد المتوقع، وتعزيز التكامل بين الفرص المتاحة خاصة في المجال الصناعي، لكي تعمل الصناعات المختلفة بشكل متكامل بما يشبه البنيان، وتقديم هذه البيانات بشكل محدث وبصورة منتظمة، وهذا من شأنه أن يكون له تأثير إيجابي في تعزيز الإستثمار، وجلب المزيد من رؤوس الأموال إلى البلاد، بما يساهم في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للإستثمار.
صحيح أن هناك منصة تسمى بـ "استثمر في السعودية"، كان من الممكن أن تلعب هذا الدور، ولكنها ليست على المستوى المطلوب، ولا تلبي حاجة المستثمر، نحن في حاجة إلى ثورة حقيقية في الفكر، ومرونة وسرعة غير عادية في الرد على المستثمرين، وتوفير البيانات الدقيقة، واعداد دراسات جدوى مختلفة في كافة القطاعات، لكي نكون في مقدمة الدول القادرة على جذب الإستثمارات الخارجية، فنحن لا يجب أن ننظر إلى أن كل شيء على ما يرام، فعبارة: "ليس بالإمكان أفضل مما كان"، لن تؤدي إلى مواجهة التحديات، وإزالة العوائق أمام تقدم البلاد.
ولا ننسى ان ذلك التوجه وتلك "الجهة" ستخدم ايضا جميع المستثمرين المحلين من ابناء الوطن ، حيث أن المعظم منهم لا يعمل إلا فيما جُبٍلَ عليه من خلال العقود السابقة ولا يرى أن في الصناعة سوف تتحقق آماله كلها فارباحها دوما لا تقل عن ال 40% بل أن في بعض الصناعات قد تصل إلى اضعاف رأس المال ، وللأسف حتى من هم من يرغب في الإستثمار في الصناعة تجده يتخبط في أي منتج يعمل ، ومن ثم تجده يتجه إلى ماتشتهيه نفسه ، وبالتالي تجد كلا منهم يعمل ويبني في وجهة مختلفة بحسب ماهو يرتئي .
فكون وجود مكان يعتبر هو الملاذ والمنطلق الذي يكفل للصانع الدراسة والتأسيس الصحيح ومكان جلب التقنية واصول النجاح إلى أن يصل إلى الصناعة والإنتاج المطلوب ويكون ذلك فيما يتناسب مع احتياج الوطن الفعلي .
"ونصبح جميعا نبني في تشييد برج واحد "
ولكي نعلم أهمية هذا المقترح، فعلى سبيل المثال نجحت هيئة تنمية التجارة والإستثمار في جذب الإستثمار الأجنبي المباشر في هونج كونج بشكل غير مسبوق، فوفقًا لتقرير "World Investment Report 2020" التابع لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، احتلت هونج كونج المرتبة الثالثة عالميًا في جذب الإستثمار الأجنبي المباشر في عام 2019، والقطاعات الأكثر جذبًا للإستثمارات الأجنبية في هذه البلد الصغير، هي الخدمات الشاملة بما في ذلك المالية والتأمين، والخدمات اللوجستية، والتجارة والسفر والسياحة.
وأخيرًا وليس آخرًا، فما سبق ذكره من كلمات وإحصائيات، لا نهدف منه إلا إزالة العوائق ومواجهة التحديات التي تقف أمام تدفق الإستثمارات الاجنبية، التي تعتبر من أهم الأذرع الاقتصادية لبلادنا لتنويع مصادر الدخل، فلا يمكن أن يتفق أحد أن يكون حجم الاستثمارات لبلد يحتل مرتبة اقتصادية متقدمة عالميًا، وعضو في مجموعة الـ20، أن يجتذب استثمارات أجنبية بقيمة لا تزيد عن 8 مليار دولار فقط العام الماضي، فهذا الرقم إن دل على شيء، فيدل على وجود خلل واضح في عملية جذب الإستثمار، ويجب مواجهة التحديات مهما كانت، مثلما يوجه دائمًا خادم الحرمين حفظه الله ، وولي عهده الامين ، اللذان يعملان بدون كلل أو تعب لتحقيق النهضة المنشودة بما يخدم المواطن والوطن .
الكاتب /
أ.د محمد احمد بصنوي